هي أجمل ساعات التلصص، حتى إنها تتفوق على بعض ساعات الليل، فأثناء تلك الدقائق نحو الغروب في أيام رمضان تتقاطع عوالم مفارقة مع بعضها البعض وتتهاوى أخرى، وتتباعد ثالثة حد القطيعة.
يشبه الثلث الأخير المتبقي من هذه الساعة قبيل آذان المغرب أغنية لزياد رحباني، عنيدة، مفعمة بروح مقاتل تراجيدي خطيئته الأمل لكن وعيه الثوري يدرك حتمية المصير.
بيد أن الأغنية رشيقة، مباغتة، تحتال على عشاق الفيروزيات القديمة حينما تفاجئهم بجملة موسيقية معاصرة منكهة بهدهدة الأغنيات العتيقة ثم فجأة ينهال على الأغنية تفكيكًا حتى آخر براغيها فيجعلك تستفيق لاعنًا مستمتعًا.
لدي ميزة إضافية تجعلني أستحلب متعة هذه الساعة وهي أنني لا أصوم. كنت أجهز طعامي في مواعيده العادية، أتناوله ثم أستحم وأتحضر يوميًا لتلك الساعة السحرية.
أقف في شرفتي الصغيرة المطلة على ذلك الشارع السكني الجانبي المفضي إلى شارع القصر العيني، وعندئذٍ يصبح كل البشر أهدافًا مشروعة، أراهم ولا يرونني فأكون حينها سيدة المشهد.
لم يكن مزاجي على ما يرام في ذلك اليوم من الأسبوع الأخير من شهر رمضان، فمهمات العيد الذي يقترب ظلت تحاصرني، توجعني فيها لحظات تفقد حكايات من رحلوا قديمًا وحديثًا، من تركوني مجبرين ومن هجروني بملء إرادتهم.
“تنفيض” الشقة، شراء ملابس جديدة، شراء نوعية ناعمة من بلح العجوة لخبز الفطائر جنبًا إلى جنب الكحك، وشراء “مشاية” جديدة على أرضية مدخل الشقة، كل هذه المهمات كانت تصيبني بالوهن، أفعلها بآلية كروبوت، فلن يزورني أحد كي يثني على جودة فطائري أو على جمال قوام كحكي وكيف إنه يذوب في الفم دون تهتك، أو على أناقة ألوان المشاية الجديدة، وليس لي حبيب أو زوج كي تستثيره ملابسي الجديدة لنمارس جنسًا يفوح بروائح الكلور والبليدج ومنظفات البوتاجاز ثقيلة الوطأة التي تصيبني بطفح جلدي حاد وتستثير حساسية صدري، ورغم ذلك كان علي أن أؤدي هذه المهمات كقرابين لمن رحلوا علي أجد من يقدم لي بعضها بعد رحيلي.
من شرفتي كان بمقدوري رؤية شارع القصر العيني من منظور جانبي وقد خفتت زحمة المركبات التي كانت محشورة داخله بينما ازدادت سرعة سيارات الملاكي والميكروباص تود اللحاق بألفة موائد الإفطار في منازلهم قبل فوات الأوان، بينما يتقاطر الباعة الذين كانوا يفترشون السوق صباحًا باتجاه الشمال يصاحبهم كل حراس العقارات في شارعنا والشوارع المجاورة بصحبة أقاربهم القادمين لزيارتهم من الريف أو الصعيد يتحدثون بصوت عالٍ، وعلى وجوههم تعلو ضحكات ارتياح، تحيط بهم أعداد كبيرة من الصغار متفاوتي الأعمار ثم تليهم مجموعات من كلاب الشارع التي كانت تدرك أنه سيكون لها نصيب وتنتظره بكامل الأدب، كنت على يقين أن أحدًا منهم لا يصوم لكن مائدة الرحمن التي يقيمها “الكابتن” ساعة المغربية -في الحديقة الصغيرة أمام البناية التي يقطن فيها الشقة رقم أربعة في الطابق الثاني وعلى امتداد جميع الأرصفة المحيطة- هي الوحيدة التي تقدم الفرايد تشيكن مع البطاطس المحمرة والكولا وعيش الكايزر وقبل هذه المائدة كان يتوجهون إلى مائدة الحاج محمد قليلة “الظفر” كثيرة الأرز والخبز.
انطلق آذان المغرب وقد خلا الشارع إلا من مارٍ هنا أو راكضٍ هناك. وبينما أتلصص على الروائح تخرج من الشرفات كي أعرف ماذا يأكل جيراننا اليوم، أبصرت تلك السيدة المنقبة ذات الرداء الأسود تتوارى خلف سيارة فارهة. لست أدري لماذا تعلقت بها عيناي لكنني رأيتها تنظر يمينًا وشمالًا. وبعدما تأكدت من خلو الشارع رفعت نقابها وأخرجت شنطة يد حريمي قديمة كبيرة الحجم كانت تخبئها تحت إبطها وتحوطها بخمارها. أسندت الشنطة إلى مقدمة السيارة الفارهة اللامعة، فتحتها وأخذت تخرج منها كيسًا تلو الآخر. ثم قامت بمد يديها نحو صدرها لتخرج مجموعة من الأكياس البلاستيكية الفارغة وبدأت تقوم بعملية حصر وتجميع للطعام بحرص ودقة متناهية كأنها محاسب يقوم “بتقفيل” الحساب الختامي للسنة المالية.
كانت الشمس قد توارت وأصبحت الرؤية أصعب لكنني مددت رأسي حتى تدلى نصف جسدي من الشرفة مغامرة بأن تراني السيدة أو يكتشفني أحد الجيران المتلصصين من أمثالي.
وجدتها ترص خمسة أكياس من الأرز الأبيض وتفتح كيسًا فارغًا تضع فيه كل كمية الأرز التي جمعتها من موائد الرحمن التي مرت عليها في هذا اليوم. ثم تقوم بفض كل أكياس السلطة الخضراء في كيس آخر، وترص علب المخلل فوق بعضها البعض وتضعها في كيس آخر. وقد جعلت “التجميعة” الأهم في آخر هذه العملية الطويلة، كيس اللحوم.
بحرص شديد تناولت من وسط الطبيخ قطع اللحوم الصغيرة بدهونها البيضاء الكثيفة ثم وضعت فوقها قطعة الفراخ الكريسبي التي حصلت عليها من مائدة الكابتن، ثم قامت بوضع وعاء بلاستيكي على الأرض الطينية الرطبة وصبت داخله طبيخ الفاصوليا البيضاء وبعض المكرونة المعجنة من وجبة أخرى تريد أن تتركها للكلاب الثلاثة الذين كانوا يقفون يهزون ذيولهم حولها لكنها لم تنتبه إلى تلك الكلبة التي قفزت برشاقة نحو السيارة لتأخذ الكيس الممتلئ بقطع اللحم المطبوخ والفرخة الكريسبي بين فكيها وتفر.
أخذت السيدة ذات الرداء الأسود بالنحيب المكتوم لكنها لم تجرؤ أن تطارد الكلبة فتكشف عن وجودها وعما كانت تفعله خاصة وقد بدأت الحياة تدب في الشارع من جديد. فأخذت كيس الأرز وعلب المخلل ووضعتهما داخل الشنطة وعلقتها على كتفها وأحاطته بخمارها ثم تأكدت من إحكام النقاب على وجهها وخرجت من خلف السيارة الفارهة لتسير بعيدًا برأس مرفوع وخطى ثابتة واسعة.
كنت أعرف مكان الكلبة لأنني كنت أذهب للعب مع جرائها يوميًا لكنني لم أكن أبدًا في وارد الكشف عنه وقد سررت لأنهم اليوم سيأكلون وجبة ساخنة يملؤها الظفر، لقد حلت عليهم أخيرًا بركة الشهر الفضيل.
ولاء فتحي
كاتبة ومترجمة واكاديمية مصرية
نشرت لها رواية قطط بمنحة من الصندوق العربي للثقافة