دفعَ بابَ المتجرِ الزجاجيّ بيده، مقاوما الألم.
كان الخيّاطُ منهمكًا في حياكةِ رقعةٍ من الجلدِ في ركنِ المتجر، مادًّا ساقَيْه على كرسيٍّ خشبيٍّ قديمِ الطراز.
سأل ببرود، دون أن يرفعَ رأسه، وهو يُدخِلُ الخيطَ في ثُقبِ الإبرة:
– ما الذي تُريدُ رقعَه هذه المرّة؟
أشار الزائرُ إلى أُذُنه المتدلّيةِ على جانبِ رأسه، والدماءُ تسيلُ بين أصابعه.
اقترب الخيّاطُ ليتفحّصَ الجرح، وتمتم بفتور:
– الأجدرُ بك أن تخرجَ من هذا الجسدِ المليءِ بالجروحِ والرُّقَع… لقد حانَ الوقتُ، يا رجل.
دعني أَمنحْكَ جسدًا بديلًا عنه. ما رأيكَ في هذا؟ جسدُ شابٍّ عشرينيٍّ رمى نفسَه قبل أسبوعٍ من أعلى جبل؟ أو هذا البوذيّ الذي شرب السُّمَّ إرضاءً لتمثالِه؟
رمقه الزائرُ بحنق، وصرخ معترضًا:
– لا أَنوي استبدالَ جسدي! ثم ما هذه الأجسادُ التي تبيعُني إيّاها؟ أيُّ طمأنينةٍ في جسدٍ لفظتْه الروح؟!
رجاءً، ضع الإبرةَ في أُذني، وقُمْ بعملك. أعدك ألّا أزورَ متجركَ مجددًا.
لوى الخيّاطُ شفتيه امتعاضًا، ثم غرزَ الإبرةَ في أُذُنِ الرجلِ المتقيّحة، وهمس:
– قد يصلُ قَيْحُ جسدِكَ يومًا إلى روحِكَ، فيملأها صديدًا، وعندها ستضطرُّ آسفًا لبترِ روحكَ أيضًا.
أنتَ لا تُدرِكُ خطورةَ الأمر.
تململَ الزائرُ في مكانه، مُقاومًا طعناتِ الإبرةِ المزعجة، وتذكّرَ تلك الخيباتِ التي تُضطرّه لتكرارِ زيارةِ المتجر، كلّما حاولَ الهرب.
كان عليه إقناعُ روحِه بمنطقِ البشر: الروحُ تُخفى تحتَ أكوامِ اللحمِ والعظم، فظلَّ يُرقّع جسدَه، كلّما شقّتْ نفسُه للروحِ جرحًا، اعتراضًا على هيمنةِ الجسد.
رفعَ رأسه ليتفحّصَ خلسةً تلك الأجسادَ المصلوبةَ على حوائطِ المتجر، وكأنّها تنتظرُ الخلاصَ الأبديّ.
لفتَه جسدٌ رياضيٌّ ثلاثينيٌّ بعضلاتٍ مفتولة، فسألَ بصوتٍ خافت:
– وما خَطبُ هذا؟ لماذا تخلّى عنه صاحبُه؟
ردّ الخيّاط، وهو يقطعُ خيطًا طويلًا بأسنانه:
– صاحبُه أفرطَ في عبادةِ الجسد.
الأرواحُ تنفِرُ أحيانًا من الأجسادِ باهظةِ الأثمان.
– لماذا قطعتَ أُذنك هذه المرّة؟
تحسّس الزائرُ الجرحَ…
– مللتُ سماعَ الترهات… لا أُطيقُ الكذب.
لكنّي أدركتُ بعد فعلتي أنني لا أستطيعُ السيرَ في الشارع بلا أُذُن.
الناسُ لا ترغبُ في مشاهدةِ المسوخ، لكنها تتقبّلُ سماعَها.
انظُر حولك… أنت لا تعرضُ مسوخًا في متجرك.
جميعُها أجسادٌ صالحةٌ للاستهلاكِ المتكرّر، والناسُ تشتري منك بغيةَ التجمُّل.
أمّا أنا، فقد أخفتْ الرقعُ جسدي… ستٌّ منها على يدي، وتسعٌ في عيني، وعشرونَ رقعةً على لساني…
لكنّي أبقيتُ روحي بعيدةً، لم يلحقْها العطب.
اسمع… لماذا لا تُعلّقُ روحي في متجرك؟ اعرضها للبيع.
ربّما تجدُ مَن يشتري تمرُّدَها.
أشاح الخيّاطُ بنظرِه عنه، وصمت طويلًا محاولًا وزنَ الأُذُنِ بعد ترقيعِها.
أدارَ ظهرَه، وسار نحو البابِ ، ليقفَ متفحّصًا أجسادَ المارّة خلفَ الزجاجِ المصقول…
– سبعةُ جنيهاتٍ ثمنُ الرقعة… ولستُ بحاجةٍ لعرضِ روحِكَ في متجري.
أنا لا أبيعُ بضاعةً لا تضمنُ أرباحَها.