فلسفات الوجود

   تَستَميتُ الرُّوح للعبورِ نحوَ غدٍ متواضعٍ يعاندُ الدَّرب وصولًا إلى مشارفِ الحلم، لكنَّ الرُّوح باتت تكرهُ ما عشقتْ، إحساسها العالي بالحبِّ دُفِنَ وسيوارى الثرى كَونُها الباذخ به أفلس، مرارةُ الانتظار أشدُّ من فَقدِ الأمل وطوق النَّجاة مُتاح بل مُلقى على أعتابنا، وعنادهم يُراهنُ على الصَّبر وضعف القلوب، لا يعلمُ أنَّ القلوبَ بردتْ جدًا بينها وبين الجليد ساعات.

    لا يعلمُ أنَّ الشُّعور تَصَلَّب خسرَ كثيرًا قلبي خسرَ الإحساس الّذي ظنَّ أنه مُلكهُ الدَّائم ودربهُ الطَّويل ما دام حيًّا، أطرافه جامدة اعتزلت فنَّ الفرح الأكبر، واتكأت على أحلامها المُكسَّرة. 

      التدفقُ الكامل مع أشباه الأحياء حرام يسلبك الدِّماء وما ضَخَّتهُ القلوب في كياننا.

      يستنزفُ أحلام الغدِ يُطفئ بركان شبابكَ الحالم ويَسلبُ من ثغركَ حرارة الحبِّ.

      مع الموتى ستنظرُ بعدَ مدةٍ في مرآةِ صبركَ؛ لتجدها مُهشَّمة ستنتشلُ أجزاء المرايا المُهشمة تريد عبثًا أن تنظرَ لآخر ملامحكَ، فترى كل شيء إلا ذاتك.

    ترى أشلاء روحٍ مُنسحبة من عيونكَ ترى جمودًا وبرودًا مخيفًا، ستؤمن أنَّ الطُّفولة التي رافقتكَ دومًا غادرت دون وداعٍ أو رسائل غفران. 

  باتت العودة مستحيلة والأفق حياديُّ اللون كلّ ما فيكَ يُنادي بحرقة الضَّائعِ في ممرات الأحياء المُعتمة الباردة، ولا مجيب له في هذه الأزقة إلا صدى صوته ويأس النَّبرة.

    وها هو يعود كما اعتاد دائمًا فارغَ الخطوة أخرس الأحلام والحوارات، عاشَ ارتداد الصدى ومخاطبة الجدران حتى عَشِقَ الجماد ولم يعدْ يدرك خطاب الأحياء للأحياء.

  وبقيَ بثباتٍ دائمٍ يراقبُ إِشرقَ  الشَّمس وتَراقص أمواج البحر بين المدِّ والجزر،  بإصرارٍ يراقبُ  نسمات الهواء، وبحبٍّ يناظرُ زهرَ الليمون، وإِطلالةَ  الرَّواسي الموقعةَ عهد الشُّموخ، وانطلاقَ الياسمين عطرًا والريحان شوقًا و توالد الأرض عطاءً وخصبًا.

    كونُ اللهِ محكمُ الإخلاصِ لا يملُّ من العهد القديم، يخطُّ نسيجَ الوفاءِ.

    راقبْ الحياةَ بأدقِ تفاصيلها ستجدُ سنة دائمة لا تتحول، رباطًا مقدسًا لا يُنكَث، لا القمر يجالسُ خليلًا آخر ولا الشَّمس تهبُ امتدادها لعابرِ سبيل.

    منذُ بدءِ الخلقِ تزور الشَّمسُ الأرضَ صباحًا؛ لتطبعَ قبلةَ المغيبِ، ويطوفُ الليل بين أهدابنا ماسحًا دموعَ الشوقِ مُخففًا بُعدَ العاشقين، كرسولِ حُبٍّ ينقلُ الغصَّة والتنهيدة لا يَسأم الكون ولا يُنقضُ العهد، لا الأُسدُ ترضى الهديل ولا الحمام رسائله زئير، وكلهم بثباتهم ودوام عهدهم رفضوا حملَ الأمانة وحملها الإنسان، حملها من لا عهد له ولا ذمَّة إلا من رحم ربي، حملها من يُحبُّ أول اليوم ويكرهُ آخرهُ من يطلبُ العونَ والرزق وينكرُ عند الشبع من ينامُ بجوار روحٍ أعطته الجسد والقلب والحياة والولد؛ ليستيقظَ رافعًا لِحافَ أنثى أخرى عن كاهله.

   أخذها الإنسان ولا أعلم كيف سَولتْ له نفسه أن يبرمَ عهدًا وهو المتغير الأول والأوحد على هذهِ البسيطة؟

   ما هذا الجلد والقوة؟ وما هذه الحكمة العُظمى في اختيار صاحب الأمانة؟

    أكثر الناكثين للعهود مُبرمِيها، الوفاء سلعة غالية لا يستطيع رسمَ خطوطها أيّ أحد، فلنحمل مع الكون وفاءهُ ومع الزَّهر عطرهُ ومع النَّحل سعيهُ الدَّائم، هل نستطيع إطلاق الخيوط؛ لتسيرَ على نفس الدرب بنفس الوفاء؟ أم أنَّ التَّقلبَ جينٌ وراثيٌّ يُشاطرنا الأنفاسَ، هل سيأتي اليوم الذي سنأخذ من الأرض وفاء ترابها ومن الليل عهد أستاره السوداء الساترة، ومن الحبِّ زهر ربيعهِ ومن الحياة دفقها الدائم ومن الموت راحته المخلصة؟ هل سندركُ ما لا يُدرك؟ وإن أَدركنا، كيفَ نعود لجوف الحياة؟

    كيفَ يعودُ المُدركُ؟ كيف نَبعثُ الشُّعورَ والحماسَ المدفون ونواري عن الناس فجواتنا وفراغات التَّجربة؟

   لم نعدْ صالحينَ للكلامِ والحديثِ باتتْ شفاهُ النَّاسِ تُتعِبُنا وتُرهقنا من قمَّةِ الحماسِ والرَّغبةِ والاندفاعِ إلى قاعِ الصَّمتِ والعزلةِ، هل تموتُ الأشياءُ فينا ونحن أحياء؟ أم أنَّنا حقًّا كبرْنا ورَافَقنا الصَّمتُ، عقدَ قِرانًا أبديًّا معنا، نَذرْنا على محرابهِ قُدسيَّةَ ارتباطٍ لا فكاكَ منهُ.

يُفْرَغُ ما في جَيبي وروحي دونَ توقفٍ أمامَ شواطِئ اللهِ وغاباتِ الحبِّ الأولى وقممِ الجبالِ، أشعرُ بالخفَّةِ أَلثمُ الأوراق الصَّفراءَ وأَعبثُ بالرِّيحِ وأُهدي عشتارَ أنفاسي .

    أحيانًا أشكُّ في أصلي وتكويني إن كنتُ بشرًا حقًّا أم طيفًا لا يخفقُ إلَّا مع طبيعةِ اللهِ.

   رُبَّما الخللُ بادٍ حتى على ملامحي، لبستُ عباءَةَ الحرفِ ودخلتُ صومعَةَ الكِتابِ لا أستطيعُ الانسحابَ وأخافُ التَّقدمَ، تداخلتِ الشَّهوات لدي وخاضتْ حروبًا لا تَنتهي هُزِمتُ فيها مرارًا وانتصرتُ وبقيَ على حَلبةِ آخرِ نزالٍ ذاتي القديمةُ مُقابلةً في الصِّراعِ الطَّبيعةَ والقلمَ، فكان النِّزالُ عقيمًا.

   تبكي فيهِ الأَنا القديمة الشَّرسة القويَّة المُندفعة حَدَّ الجنونِ المُثخَنة بالنَّاسِ والحياةِ أمامَ الماردِ العملاق الّذي خرجَ من قمقمِ لُغتي.

     من فَرَكَ المِصباحَ وأَخرجَ القديمَ المدفونَ؟ أنا، أم منْ عَبرُوا حياتي أَم أرضُ المَهجر؟

   لا يهمُّ الآن التَّفتيش عن الفاعلِ، المُهم أنَّ ما خرجَ من الفانوسِ لن يعودَ وأنَّ النِّزالَ محسومٌ وما سيدفنُ على حلبةِ النِّزال ذاتي القديمة؛ لتولدَ روحٌ أَجهلُها ولا أستطيعُ الهروبَ منها.

    كيفَ يعودُ المُدركُ مُثقلًا بالصَّمتِ مُنهكًا من ذاتهِ فارغَ المَعالمِ والآثار؟ كيفَ أكونُ أنا، أنا بعدَ اليومِ؟

   فَسجِيَّةُ البشريَّةِ والمُدرك تُحاكُ وتَطأُ الكونَ، مُنساقةً  نحوَ التَّوقِع الأعلى والأجمل.

  يأتي الوليدُ للدُّنيا صارخًا لا يَخافُ شيئًا، مُتوقِّعًا الإجابةَ وتقديمَ الحُبِّ والأمانِ والغذاء.

  تنمو أشجارُ الأرضِ نحوَ الأعلى مُتَّبِعَةً شُعاعَ الشّمسِ لا تُدرِكُ إنْ ساقَها الشُّعاعُ إلى الموتِ أم إلى الحياة.

بسجِيَّةِ الفطرةِ تُلاحقُهُ، تُمضِي حياتها صاعدةً راجيةً لقاءَ النُّورِ الأكبر.

وتواصلُ البحارُ مَدَّها وجزرَها تلامسُ اليابسةَ تُجاملها مرّةً، فتطبعُ قبلةَ المُشتاقِ وتقسو مرّاتٍ فتصفعُ وجهَ الأرض.

لا تسأَمُ من الغَزَلِ ولا من العقاب.

يتعاقبُ اللّيلُ والنّهارُ كُلَّما سَئِمَ القمرُ الوحدةَ وأدركهُ الاشتياق.

جاءتِ الشّمسُ مُحتويةً بقايا صبرِهِ وليلِهِ مُدَّثِرَةً وِسادَةَ نومهِ؛ لتُعْلِنَ إشراقَها دونَ مللٍ أو خذلانٍ لرفيقِ يومها.

ونمضي في الأصقاعِ نتابعُ خَلْقَ الله في انسِجامِهِ وإخلاصهِ وانسياقهِ نحوَ الهدفِ والعطاء.

البذرةُ الصَّالحةُ لم تخذلْ الأرضَ الخصبة، فضَّتْ تُرابَها وانطلقتْ نحوَ السَّماء.

وأجنحةُ الطَّيرِ لم تخَذلْ  الطُّيُورَ  في قمَّةِ احتياجِ الطّيرِ للفضاء.

ولا النَّهرُ عصى دربَه وأَوقفَ عَجيجهُ، لا يكَلُّ ولا يمَلُّ من جَرَيانِهِ الّذي فطرهُ اللهُ عليه إلا هذا المخلوقُ المُتجبِّرُ المُنسحب.

هذا الضّعيفُ المُؤَيّدُ بالأمانةِ العُظمى، هو فقط من يَهوى كَسْرَ القلوب، هو من يُتْقِنُ التَّخلّي وهو من يزرعُ الأملَ والتَّعلُّقَ حدَّ العمى.

ثم يَتركُ اليدَ التي اتَّكأَتْ عليه؛ لترى وتُبصر هو فقط من يترُكُ الوردَ الجوريَّ في ذُروةِ نُضجِهِ حائرًا لا كفٌّ تَلمسُهُ ولا شِفاهٌ تلثِمهُ.

وهو من يُرسِلُ الجواسيسَ لإفسادِ أعتى الخِطَطِ العسكريَّةِ وهو من يترُكُ أُنثاهُ تُكابِدُ آلامَ المخاضِ المُمزِّقةِ؛ ليسنِدَ يَدَ حسناء غانية.

وهو من يقذِفُ رِسالاتِ السَّماءِ ويُسقِطُ دمعَ المُرسَلين.

لا تقوى الجبالُ والبحارُ والصّواعِقُ والسَّماءُ على خُذلانِ الأنبياء ولكنّ الإنسانَ يَقوى ويقدر.

كم مرّةً خُذِلَ موسى؟

كم مرَّةً وقفَ على أعتابِ بيتِ المقدسِ باكيًا غَدْرَ البشرِ؟

هو فقط من يستطيعُ.

فلا يأبَهُ لفطرةٍ ولا يَحزنُ على سنةٍ.

متى أحبَّ وعشِقَ وتَملَّكَ وُجِد.

ومتى ملَّ وسَئِمَ باعَ وترك.

لا دُمُوعُ الألمِ تَعنِيهِ ولا سِياطُ اللّومِ تُؤذيه.

كانتِ الرِّجالُ سابقًا تُذبَحُ على مِحرابِ كلامها ولا تنسحِبُ أو تهون، والنِّساءُ من دِمائِها تَسْقِي البذورُ.

هذه أدوارُنا كأيِّ مخلوق.

لم نُخْلَقْ لنكونَ إبليسًا بثوبِ إنسانٍ تركنا الجنّةَ مثلَهُ فعلًا، لكن تركناها مخدوعينَ وتَرَكَها إبليسُ بإصرارِ خاذِلِي الجنّةِ وكافِرِي النّعمةِ.

فلماذا على الأرض تبادَلْنا الأدوار؟


آيات عدنان صلاح

آيات عدنان صلاح، كاتبة وأديبة أردنية، أصدرت كتابين منفردين في الخواطر والسرد الروائي، وشاركت في أكثر من عشرة مؤلفات جماعية مع نخبة من الأدباء العرب. نشرت نصوصي ومقالاتي في صحف ومجلات إلكترونية عديدة منها ميرزداد وميم وجوك ومنهجيات، وحصدت جوائز ثقافية وأدبية محلية تثبت حضوري الفاعل في المشهد الأدبي.